المفاوضات الإيرانية-الأمريكية- صراع الإرادات ومخاطر التصعيد

منذ قرابة شهرين، صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه سيمنح إيران مهلة شهرين لإبرام اتفاق، وربما كان إصرار طهران على عقد الجولة السادسة من المحادثات بين الطرفين يوم الأحد الموافق 15 يونيو/ حزيران بدلًا من يوم 12 يونيو/ حزيران، مرده إلى أن يوم الخميس 12 يونيو/ حزيران يوافق نهاية هذه المهلة، ورغبة إيران في إظهار تصميمها على عدم الخضوع للضغوط الأمريكية.
على الرغم من سعي الإدارة الأمريكية لخلق أجواء متوترة قبيل الجولة السادسة من المفاوضات، تحاول إيران التزام الهدوء وإظهار الثقة بقدراتها الدفاعية وموقفها، وربما لتجنب إثارة الاضطرابات الداخلية.
في المقابل، يؤكد القادة العسكريون الإيرانيون على أن القوات المسلحة في حالة استعداد قصوى لمواجهة أي سيناريو محتمل.
في طهران، يتبين من خلال استعراض آراء صناع القرار السياسيين والمشاركين في اجتماعات مراكز الدراسات، أن هناك إجماعًا واسعًا، بغض النظر عن التوجهات الفكرية والسياسية، على أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان لتطبيق النموذج الليبي على إيران، وأن على القيادة الإيرانية تجنب هذا الفخ، حتى لو أدى ذلك إلى نشوب حرب.
تفضل القيادة الإيرانية أن يسجل التاريخ صمودها ومواجهتها للولايات المتحدة وإسرائيل حتى النهاية، بدلًا من الاستسلام والخضوع، مما قد يدخل البلاد في وضع مشابه لما حدث في ليبيا.
يمكن القول إن مسألة عدم الانصياع للمطالب الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، تعد من بين القضايا النادرة التي يتفق عليها السياسيون الإيرانيون من مختلف الأطياف السياسية.
حتى المعارضة الإيرانية، التي لا تتلقى دعمًا ماليًا من إسرائيل والولايات المتحدة، تؤيد بقاء إيران على موقفها الرافض للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، وعدم التنازل عما تعتبره إنجازات علمية ودفاعية.
على الرغم من أن الأنظار تتجه عادة نحو جولات المفاوضات التي يجريها نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مع المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، إلا أن المفاوضات الأساسية تجري في الخفاء، عبر قنوات غير رسمية وغير علنية، وعبر اتصالات بوساطات مختلفة، وبعد التوصل إلى نتائج مرضية في هذه المفاوضات السرية، يلتقي عراقجي مع ويتكوف لإضفاء الطابع الرسمي على ما تم الاتفاق عليه.
بناءً على ذلك، يمكن اعتبار الاتفاق على عقد الجولة السادسة من المفاوضات مؤشرًا على تحقيق تقدم في المفاوضات غير المعلنة.
ومع ذلك، فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه المفاوضات بين الطرفين يكمن في التردد وعدم الوضوح في الموقف الأمريكي.
المفاوضات الحالية جاءت بعد سلسلة من المشاورات الممتدة وتبادل الرسائل، والتوصل إلى صيغة مقبولة نسبيًا للطرفين، والتي تضمنت تقليص إيران لمستوى تخصيب اليورانيوم وتقديم ضمانات مقنعة بشأن الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي، مقابل رفع كامل للعقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
كان المطلب الأمريكي يتركز حول "التحقق من سلمية البرنامج النووي الإيراني وضمان عدم توجه إيران نحو تصنيع أسلحة نووية"، بينما كان المطلب الإيراني واضحًا ويتمثل في "رفع العقوبات بشكل دائم وتقديم ضمانات قاطعة بتنفيذ الولايات المتحدة لالتزاماتها في الاتفاق وعدم الانسحاب منه أو إعادة فرض العقوبات تحت ذرائع مختلفة".
وفقًا لأحد المشرفين على المفاوضات، قام الجانب الأمريكي بتغيير مطالبه بشكل متكرر خلال الجولات الخمس الماضية، ولم يقدم أبدًا مقترحًا واضحًا يحدد ما ستقدمه الولايات المتحدة مقابل المطالب الإيرانية، أو يوضح آلية رفع العقوبات وتلبية المطالب الإيرانية.
تدرك الولايات المتحدة تمامًا أن إيران لن تقبل بوقف تخصيب اليورانيوم بشكل كامل داخل البلاد، وهي تشارك في المفاوضات بهدف رفع العقوبات فحسب، ولا يوجد ما يشير إلى أن إيران ستذعن للمطالب الأمريكية.
حتى التهديدات العسكرية الأمريكية لن تؤثر على الموقف الإيراني، فالتهديدات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية قائمة منذ عام 1995، ورغم ذلك، استمرت إيران في تطوير برنامجها النووي، ولم تقلل من وتيرة التصعيد إلا نتيجة لاتفاقيات سياسية.
يدرك الجانب الأمريكي أيضًا أن تدمير البرنامج النووي الإيراني يتطلب عمليات عسكرية متعددة، وهو أمر محفوف بالمخاطر، حيث أن إيران سترد وتدافع عن نفسها بكل تأكيد.
بالإضافة إلى ذلك، حتى في حال تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، فإن إيران قادرة على إعادة بنائه بسرعة خلال عام واحد في مواقع سرية، نظرًا لامتلاكها التكنولوجيا اللازمة وكل ما تحتاجه من معادن اليورانيوم إلى تكنولوجيا تصنيع أجهزة الطرد المركزي وغيرها، داخل الأراضي الإيرانية.
بالنظر إلى أن إيران قد حصلت على وثائق نووية سرية إسرائيلية تتضمن كيفية تصنيع الأسلحة النووية، والتي قدمتها لها دول أوروبية، فمن المحتمل أن تتجه إيران هذه المرة نحو تصنيع السلاح النووي لحماية أمنها ووجودها.
الأمريكيون يعلمون أيضًا أن امتلاك اليورانيوم المخصب بنسب عالية والتكنولوجيا وأجهزة الطرد المركزي الموجودة حاليًا داخل إيران، يُمكّن هذا البلد من تصنيع السلاح النووي في غضون أيام إذا ما توفر القرار السياسي.
لهذا السبب، هناك خطر حقيقي بأن تنجرف إيران نحو سيناريو شبيه بكوريا الشمالية، نتيجة للسياسات الأمريكية والأوروبية، بدلًا من الانزلاق نحو السيناريو الليبي.
يذكر أن الولايات المتحدة قد دخلت في مفاوضات مع كوريا الشمالية وتوصلت إلى اتفاقيات تحد من برنامجها النووي خلال فترة رئاسة بيل كلينتون. ولكن بعد ذلك، دفعت سياسات جورج بوش هذا البلد إلى التوجه نحو تصنيع السلاح النووي والإعلان عن إجراء أول تجربة نووية في عام 2006.
لولا السياسات والتهديدات التي تبنتها الإدارة الجمهورية الأمريكية، لربما لم تكن كوريا الشمالية مضطرة إلى تصنيع السلاح النووي.
يكمن جوهر الأمر في أن أي هجوم أمريكي أو إسرائيلي على إيران، وخلق تهديد وجودي لهذا البلد، قد يدفع المرشد الإيراني إلى تغيير فتواه، وبالتالي تغيير العقيدة النووية الإيرانية.
إضافة إلى كل ذلك، ستكون الصين حريصة على دعم إيران ماديًا وعسكريًا لمواجهة الولايات المتحدة وإدخالها في صراع طويل الأمد، فهي تدرك أن الولايات المتحدة ستتحول إلى مواجهة الصين بعد ضمان تحييد إيران وروسيا.
أما روسيا، فهي لن تقبل بخسارة منفذها الوحيد الآمن إلى البحار الدافئة، ولا يزعجها انغماس الولايات المتحدة في المستنقع الإيراني، لأن ذلك سيؤدي تلقائيًا إلى تقليل الدعم الأمريكي لأوكرانيا.
أما تدخل الدول الأوروبية، المستاءة من تهميش دورها في المفاوضات، عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتهديدها بتفعيل "آلية الزناد" في الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران، فقد زاد الأمور تعقيدًا، حيث تستعد إيران لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد هذه الخطوة، بما في ذلك زيادة حجم اليورانيوم المخصب بنسب عالية، وتخفيض مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة بعد حصول إيران على مستندات سرية إسرائيلية تؤكد تسريب الوكالة لمعلومات سرية لإسرائيل حول البرنامج النووي الإيراني، وتجسس بعض مفتشيها لصالح إسرائيل.
إيران تتساءل حاليًا عن الفائدة المرجوة من التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة إذا كانت العقوبات الدولية ستعاد فرضها عليها.
على الرغم من أن إعطاء إجازات صيفية للأمريكيين المتواجدين في المنطقة وسفر عائلاتهم هو إجراء روتيني يتكرر كل عام، تحاول الولايات المتحدة تصوير ذلك على أنه تهديد لإيران، بأنها قد تقدم على عمل عسكري إذا قررت إيران التصعيد بعد صدور قرار مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو في حال عدم امتثالها للمطالب الأمريكية.
وفقًا لبعض التسريبات، بينما تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين خلال الجولة الثالثة من المفاوضات بشأن إنشاء كونسورتيوم (مجموعة دول من المنطقة) لتولي مسؤولية تخصيب اليورانيوم في إيران، غير الأمريكيون رأيهم بعد زيارة ترامب للمنطقة، وطالبوا بأن يكون موقع تخصيب اليورانيوم في إحدى الجزر الإيرانية في الخليج، وأن يكون مكشوفًا لا تحت الأرض.
لاحقًا، تراجعوا عن ذلك مرة أخرى في رسالة أخرى، وطالبوا بأن يتم التخصيب خارج الأراضي الإيرانية، وأن تقوم إيران بوقف التخصيب وتفكيك منشآت التخصيب بشكل كامل داخل الأراضي الإيرانية، مع السماح للمفتشين الأمريكيين بتفتيش المنشآت الإيرانية تحت مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكان من المتوقع أن ترفض إيران هذا الطلب.
بحسب بعض المصادر المطلعة، قدمت إيران للجانب الأمريكي مقترحًا مضادًا يقوم على بقاء منشآت تخصيب اليورانيوم داخل الأراضي الإيرانية في مواقعها الحالية، مع قيام الكونسورتيوم بإنشاء منشآت تخصيب جديدة في أي مكان يتم الاتفاق عليه، لتلبية احتياجات إيران ودول المنطقة من اليورانيوم المخصب.
بموجب هذا الاقتراح، تقبل إيران بتخفيض حجم ونسبة التخصيب داخل منشآتها دون إيقافه، بالتوازي مع الكميات التي يتم تسليمها لها من قبل الكونسورتيوم.
يمكن تخفيض نسبة التخصيب إلى مستويات منخفضة جدًا تكاد تكون معدومة، حيث أن تخصيب كمية تقل عن الطن بنسبة 3.67% يعتبر عمليًا مساويًا للصفر، وهو يكفي فقط للحفاظ على أجهزة الطرد المركزي في حالة دوران حتى لا تتعطل.
بينما تصر إيران على الاحتفاظ باليورانيوم المخصب بنسب عالية داخل البلاد، في أماكن آمنة وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كضمان لتنفيذ الأمريكيين لالتزاماتهم، طلب الجانب الأمريكي من الجانب الروسي التدخل ونقل هذا اليورانيوم إلى روسيا، وهو ما ترفضه إيران في الوقت الحالي على الأقل.
في المقابل، تطالب إيران الجانب الأمريكي بتقديم تنازلات مغرية، وعلى رأسها توضيح آلية رفع العقوبات عن إيران، نظرًا لأن الرئيس الأمريكي لا يستطيع سوى رفع العقوبات الرئاسية، التي تمثل حوالي 20% فقط من إجمالي العقوبات، بينما يتطلب رفع بقية العقوبات قرارًا من الكونغرس الأمريكي.
يرفض الإيرانيون فكرة تعليق العقوبات الأمريكية، كما حدث بعد الاتفاق النووي، لأن التجربة السابقة أثبتت أن تعليق العقوبات لا يؤدي فعليًا إلى انفتاح مجالات التعاون الاقتصادي الإيراني على المستوى الدولي.
وبالنظر إلى موافقة الولايات المتحدة على إجراء جولة جديدة من المفاوضات، هناك اعتقاد بأنها قد قبلت ضمنيًا العرض الإيراني، وأن كل ما يتم تداوله في وسائل الإعلام يهدف فقط لكسب المزيد من المساومات.
يبقى السؤال المطروح: هل تسعى الولايات المتحدة إلى الحرب أم إلى السلام؟ فقد أصبح الاتفاق وخطة السلام التي ترضي الطرفين مطروحة على الطاولة، ولكن المخاوف تتركز حول محاولة الإدارة الأمريكية تصدير مشاكلها الداخلية، خاصة في ظل الاحتجاجات المتصاعدة ضد قرارات ترامب.